حكم الثورات

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حول حكم المظاهرات
وما فيها من نهي عن المنكر وما تؤدي إليه من ثورات وخروج على الحاكم الظالم . . وقتل . .
1/5/2011م

كثير من العلماء قديماً وحديثاً يقررون جواز الخروج على الظالم، بل وجوبه.
لكنهم يفتون بأن الخروج على الحاكم الظالم ينظر فيه إلى المصلحة أو المفسدة المترتبة على ذلك، لما يملك من قوة وقدرة على القتل والانتقام واستغلال النظام لخدمة ظلمه وبطشه، بدلاً من أن يكون نظامه وشرطته وجيشه وموظفوه لخدمة الشعب المؤمن.
وهذه الفتوى صائبة من حيث منطقها، وتدل عليها أدلة كثيرة بينها الفقهاء في كتب الفقه والحديث.
لكن التطبيق العملي لهذه الفتوى والتقدير الحقيقي للمصلحة والمفسدة المترتبة نظن أنه قد حصل فيه خطأ كبير خلال التاريخ وفي هذا الزمان.
فكثير من أهل العلم يرى أن هذا الخروج يؤدي إلى فتن واضطرابات وقتل وإخلال بالنظام والاستقرار؛ وذلك كاف ليحكموا بمنع هذا الخروج.
والحقيقة أن ما أصاب المؤمنين والمسلمين والدعوة والدين من ضعف وإيذاء، وما دخل على الأمة من فساد وهوان واستعباد وخدمة لأعدائها وسرقة لأموالها ... يجعلنا ننظر إلى الأمر على أن اضطراب حكم الظالم وحصول القتل هو أهون بكثير من النتائج التي عشناها خلال السنوات والعقود الماضية الأخيرة.
وحينما كان أهل الوعي والحق قليل، والذين يمكن أن يضحوا بأنفسهم لنصرة الحق قليل؛ فقد تكون الفتوى صائبة في أن لا يخرجوا على الظالم، لأنه سيقهرهم، ولن يجدوا معيناً ولا نصيراً من إخوانهم المسلمين الغافلين والجاهلين والمرتاحين إلى دنياهم وأشغالهم.
ولكن حينما تحركت هذه الثورات العامة، وصار الوعي لحقوق الناس وحرياتهم عاماً، وصار الأنصار كثيرون من العامة والخاصة، ومن الجماعات والأحزاب، ومن الطوائف والأديان، بل حتى الأمم الأخرى تؤيد ثورتهم ومظاهراتهم؛ فلا شك أن الفتوى صحيحةٌ بوجوب التظاهر والخروج على الظلم والظالم، ونهيه عن منكراته ومنكرات نظامه وأمره بالمعروف ومطالبته بالمطالب المشروعة والحقوق المقررة في الدين وعند أهل كل ملة.
ولا شك أن هذا التظاهر هو تحقيق لفرض من فرائض الله العامة على كل الأمة، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خاصة وأن هذه المظاهرات وهذه الاعتصامات وهذه المطالبات سلمية؛ تحرص على عدم الإفساد والتخريب والإضرار بالممتلكات والمال العام أو الخاص، ولا بالمصالح العامة والخاصة.
وتقتصر على مطالب مشروعة لا يختلف اثنان على مشروعيتها.
وحينما تقابلها الدول والأنظمة والحكام بالانتقام والقمع والأذى والاتهام والكذب والتزوير والضرب والقتل عندئذ فالمعتدي ـ وهو الحاكم ومن ناصره من النظام ـ هو الذي يستحق الردع، ويستحق الرد عليه، وهو صاحب الفتنة، وليس من يطالب بحقه وحقوق عامة الناس والمسلمين.
وعلى الرغم من أن الدفاعَ عن النفس في تلك الحالة، ورَدْعَ الظالم الباغي؛ حقٌّ مشروع شرعاً وعقلاً وعرفاً؛ مع ذلك تصرُّ الشعوب والثائرون والمعتصمون أن لا يردوا ولا يستعملوا القوة، حتى من كان منهم مالكاً لقوة ما، مكتفين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بألسنتهم دون أيديهم.
فإن قيل: إن هذا الشكل وهذا النوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ المظاهرات والاعتصامات ـ لم يفعله ولم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر عام يندرج تحته أشكال وأنواع وأدوات وألفاظ ووسائل لا حصر لها، فلما أمرنا بالأمر والنهي؛ فكل ما يحققه يعتبر مشروعاً، بل واجباً، إلا إذا كان بصورة منهي عنها أو وسيلة ممنوعة شرعاً.
فليس فقيهاً من يقول إن كل وسيلة تحتاج إلى دليل خاص بها، لأن النصوص العامة لا تقيد لعدم وجود الدليل الخاص الذي يفصلها، بل تدخل التفصيلات تلقائياً في الأمر العام، ولا نمنع شيئاً منها إلا بدليل خاص، فالمنطق الشرعي والفقهي والعقلي يقول بدخول كل وسيلة إلا ما نُهِيَ عنه، ولو قلنا خلاف ذلك لأبطلنا كثيراً من نصوص الشرع العامة وقواعده، بحجة عدم بيان الشرع لصورها ووسائلها.
ومن يقول بالحاجة إلى الأدلة الخاصة للوسائل؛ هو كمن يُحَرِّمُ استعمال التلفاز والاننرنت في الدعوة إلى الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستعملهما، ويُحرِّم القتال بالدبابة والصاروخ لأنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن يدعي أن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ هي أمور توقيفية وتعبدية لا يجوز الاجتهاد في وسائلها وصورها، فهؤلاء ليس لهم دليل، وأكثر ما يستدلون به من أدلة على هذا الأمر فهي أدلة عامة أيضاً تضع ضوابط وقواعد وأخلاقيات ومقاصد للدعوة والأمر والنهي، لا تضع وسائل خاصة.
مع الإقرار بوجوب المحافظة على الوسائل الواجبة كخطبة الجمعة، وندب المحافظة على الوسائل المندوبة كدروس العلم والوعظ من أهلها.
وإن قيل: إن ما يحصل من قتل وضرب وسجن وغيرها هي فتن ومفاسد تستدعي ترك التظاهر والاعتصام، فنجيب عن ذلك بأمرين:
1. إن الصبر على هذا الفساد والظلم الواقع من الحكام والأنظمة سيؤدي إلى مزيد من الفساد والظلم والأذى والقهر والهوان والبعد عن الدين، سَنَة بعد سنة، حتى يصل الأمر إلى إماتة الدين وضياع الحق، فنحتاج بعدها أن ندعو إلى الله كما كان يدعو النبي  صلى الله عليه و سلم وحده في أول الإسلام ويتحمل الأذى، فلَأَن نتحرك الآن على ضعفنا؛ خير من نصل إلى حال أضعف ونكون أعجز عن نصرة الدين والحق وعن الأمر والنهي، وما رأينا الوسائلَ التي يراها بعضُ العلماء حكمةً وَصَلَتْ إلى نتيجة ولا رفعت ظلماً، بل حالنا من سوء إلى أسوأ.
2. إن البقاء على حالٍ من الفساد والظلم وحالٍ يصل إلى إماتة الدين والحق؛ هو الفتنة بذاته، والنفوس ترخص لإقامة الدين وإخضاع الناس لحكم الله الحق، فقد بين الله تعالى أن ﴿ الفتنة أكبر من القتل ﴾ وأشد، فالقتل ليس هو الفتنة، وإنما الفتنة هي أمر أكبر من القتل، وهذا يعني أننا يجب أن نقبل القتل ولا نقبل الفتنة، ويعني أن النفوس ترخص لأجل إزالة الفتنة، وتوضح آيات أخرى أن الفتنة هي أن نُحكَم بغير حكم الله وأن نَخْضعَ لغير دين الله، فأَمَرَنا أن نقاتل ونتعرض للقتل حتى نصل إلى حكم الله والخضوع لدين الله، ولنرفع فتنة حكم الباطل والظلم، ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنةٌ، ويكونَ الدينُ كلُّه لله ﴾، فبين أن عدم القتال هو الذي يبقي الفتنة، فواجبنا أن نقاتل لرفع فتنة حكم الباطل والظلم، فكيف إذا كان الأمر لا يقتضي منا إلا خروجاً بأجسادنا وقولاً بألسنتنا دون قتال؟؟
فما دام التظاهر يحقق رفع الفتنة والظلم والاستبداد، فقد وجب أن ينصر بعضنا بعضاً، ومن يتخلف عن نصرة إخوانه المتظاهرين لأجل الحق فهو معين للظالم المستبد، وهو الذي يطيل أمد الباطل، وهو الذي يؤدي إلى الفتنة ويرسخ الفتنة الموجودة، فقد أمرنا الله تعالى بنصر المسلم وأوجبه علينا: ﴿ وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ﴾ ثم بين في الآية التي تليها أن عدم النصر هو سبب الفتنة: ﴿ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ﴾.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من واجبات الأُخُوَّة الإسلامية أن لا نُسْلِم المسلم إلى من يؤذيه، وأن لا نخذل إخواننا في الحق بترك مناصرتهم: « لا يخذله ولا يسلمه ».
وإن قيل: إنكم تَخْرُجون على ولي الأمر الذي أُمِرْتُم بطاعته، فكيف تعصونه وتخرجون عليه، فنقول:
1. إن إذا كان ولي الأمر يريد منا طاعته فليطع الله فينا أولاً، فإذْ عصى الله فلا حق له في الطاعة، وقد عصى الله في الأمة كثيراً، فأول عصيانه لله أنه جعل من نفسه حاكماً علينا من غير اختيارنا ومن غير اختيار المسلمين ورضاهم، وفي الأمة كثير من العلماء والرجال من هو أفضل منه، وأرضى لله منه، وأقدر على العدل منه، وترضاه الأمة أكثر منه، ثم عصى الله فينا في أمور كثيرة فلم يجعل كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مرجعه في التشريع، وضيع الدعوة، وأكل أموال الناس، وترك المعاصي في البلاد، وجعلنا أذلاء للكافرين ومنع حرياتنا حتى كتم أنفاسنا عن قول الحق، وبعضهم يفعل ذلك باسم الدين إلى غير ذلك ... وحينما يأمرنا ولي الأمر أن لا ننهاه عن الباطل والفساد والظلم فهو يأمرنا بباطل ولا طاعة له في باطل، والحديث الذي يأمرنا بطاعة ولي الأمر حتى لو جلد ظهرك وأخذ مالك، هو نفسه الحديث الذي يقول فيه الصحابي: أطعه في طاعة الله، فإذا أمرك بمعصية فلا تطعه، ثم إن هذا لا يلغي حق المظلوم الذي جلد ظلماً وأخذ ماله أن يقاضي الحاكم نفسه، أفتظنون أن الإسلام يقبل أن يظلمنا أي شخص ولو كان الحاكم ولو كان ولي الأمر ثم يجعله الشرع فوق القانون وفوق الشرع، ولا يسمح بمقاضاته ورد الحق منه، هذا معنى دخيل على الإسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم وبناتُه وخلفاؤنا لم يكونوا فوق الشرع والقانون، أفيكون حكامنا الظالمون فوق ذلك، أيها المتعالمون: لا تشوهوا صورة الإسلام بفهم هذا الحديث على غير وجهه، إن صح الحديث، فقد ضعفه بعض المحدثين.
2. لا تشوهوا ولا تحرفوا مفهوم ولي الأمر في الإسلام، فالإسلام لا يرضى ما ترتضيه الديمقراطية وغيرها أن يكون أي واحد حاكماً، بل لا بد أن يكون الحاكم عالماً أميناً عادلاً مؤمناً . . صفات أخرى، وحكام المسلمين اليوم جهال لا يفقهون من شرع الله شيئاً، بل ولا يفقهون أصول السياسة ولا قواعد الإدارة، وأكثرهم ـ إن لم يكن كلهم ـ ظالمون فاسقون خائنون ... فكيف يكون ولي أمرنا سفيهاً لا يجوز أن يكون وكيلاً على مال، ولا يجوز أن يكون ولياً على يتيم ومال يتيم، أفيجيز شرعنا أن يتولى أمر أمة وشعب وبلد بكامله؟ لقد روى البخاري عن أحد التابعين معنى ولي الأمر في الآية التي تذكره إذ بين أن « أولي الأمر هم العلماء »، فلو كان ولي أمر بحق لأطعناه.  

ـ ولست بحاجة إلى أن أسرد النصوص القرآنية والنبوية:
التي تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم.
والنصوص التي تحرم الظلم وتهدد الظالم بالإهلاك.
والنصوص التي تأمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان والقلب.
والنصوص التي تبين أننا إن لم نأمر وننهى؛ سنعاقب ونُلْعَنُ ولا يستجاب دعاؤنا.
والنصوص التي تبين أن لا طاعة لمخلوق في معصية الله، ولو كان حاكماً أو أباً أو غيره.
والنصوص التي تبين أن الذي ينهى الحاكم فيقتله الحاكم فهو سيد الشهداء.
فهي معلومة وكثيرة، وفي المقالين الذين نشرا في هذه مجلة رؤية للشيخ حاكم المطيري والشيخ عبد الكريم الخضر ما يغني عن التكرار.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه

 

Go to top